الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.فوائد لغوية وإعرابية: قال ابن عادل:الجمهور على أن {راعنا} أمر من المُرَاعاة، وهي النظر في مصالح الإنسان، وتدبر أموره، و{راعنا} يقتضي المشاركة؛ لأن معناه: ليكن منك رعاية لنا، وليكن منا رعاية لك، فنهوا عن ذلك؛ لأن فيه مساواتهم به عليه الصلاة والسلام.وبين أنه لابد من تعظيم الرسول صلى الله عليه وسلم في المُخَاطبة كما قال تعالى: {لاَّ تَجْعَلُواْ دُعَاءَ الرسول بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا} [النور: 63].وقرأ الحسن وأبو حيوة: {رَاعِنًا} بالتنوين، ووجهه أنه صفة لمصدر محذوف، أي: قولًا راعنًا، وهو على طريق النسب كلابنٍ وتامِرٍ، والمعنى: لا تقولوا قولًا ذا رُعونَةٍ.والرعونة: الجهل والحُمقُ والهَوَج، وأصل الرعونة: التفرُّق، ومنه: جيشٌ أرْعَنُ أي: متفرِّق في كل ناحية، ورجلٌ أَرْعَنُ: أي ليس له عَقْل مجتمع، وامرأة رَعْنَاء.وقيل للبَصْرَة: الرعْنَاء؛ قال: البسيط:قيل: سميت بذلك لأنها أشبهت رَعُنَ الجَبَل وهو النَّاتيئ منه.وقال ابن فارس: يقال: رَعُنَ الرجل يَرْعُنَ رَعْناَ.وقرأ أُبيّ، وزرُّ حُبَيش، والإعمش ذكرها القرطبي {راعونا}، وفي مصحف عبد الله كذلك، خاطبوه بلفظ الجمع تعظيمًا، وفي مصحف عبدالله أيضًا {ارعونا} لما تقدم.والجملة في محل نصب بالقول، وقدم النهي على الأمر؛ لأنه من باب التروك فهو أسهل.فإن قيل: أفكان النبي صلى الله عليه وسلم يعجل عليهم حتَّى يوقلوا هذا؟ فالجَوَاب من وجهين:أحدهما: أن هذه اللفظة قد تقال في خلال الكلام، وإن لم تكن هناك عجلة تحوج إلى ذلك كقول الرجل في خلال حديثة: اسمع أو سمعت.الثاني: أنهم فسروا قوله تعالى: {لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} [القيامة: 16] أنه عليه السلام كان يعجل قول ما يلقيه إليه جبريل عليه السلام حرصًا على تحصيل الوَحْي، وأخذ القرآ، فقيل له: لا تحرّك به لسانك لتعجل به، فلا يبعد أن يجعل فيما يحدث به أصحابه من أمر الدين حرصًا على تعجيل أفهامهم، فكانوا يسألونه في هذه الحالة أن يمهلهم فيما يخاطبهم به إلى أن يفهموا كل ذلك الكلام.قوله: {انْظُرْنَا} الجملة أيضًا في محلّ نصب بالقول، والجمهور على انظرنا بالوصل الهمزة، وضم الظاء أمرًا من الثلاثي، وهو نَظَر من النَّظِرَة، وهي التأخير، أي: أخرنا وتأَنَّ عَلْينا؛ قال امرؤ القَيْسِ: الطويل: وقيل: هو من نظر أي: أَبْصَرَ، ثم اتُّسع فيه، فعدّي بنفسه؛ لأنه في الأصل يتعدى بإلى؛ ومنه: الخفيف: أي: إلى الأراك.وقيل: من نظر أي: تفكر ثم اتسع فيه أيضًان فإن أصله أن يتعدّى بفي، ولابد من حذف مضاف على هذا أي: انظر في أمرنا، وقرأ أبيّ والأعمش: {أنْظِرْنَا} بفتح الهمزة وكسر الظاء أمرًا من الرباعي يمعنى: أَمْهِلْنَا وأَخِّرْنَا؛ قال: الوافر: أي: أمهل علينا، وهذه القراءة تؤيد أن الأول من النَّظِرَةِ بمعنى التأخير، لا من البَصَر، ولا من البَصِيرَة، وهذه الآية نظير آية الحديد {انظرونا نَقْتَبِسْ} [الحديد: 13] فإنها قرئت بالوجهين. اهـ. .تفسير الآية رقم (105): قوله تعالى: {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (105)}..مناسبة الآية لما قبلها: قال البقاعي:ولما أرشد ختم الآية إلى العلة الحاملة على الامتثال علل بعلة أخرى فقال: {ما يود الذين كفروا} مطلقًا {من أهل الكتاب} اليهود والنصارى {ولا} من المشركين بأي نوع كان من أنواع الشرك بغضًا فيكم حسدًا لكم {أن ينزل عليكم} وأكد الاستغراق بقوله: {من خير من ربكم} أي المحسن إليكم، فكأنه قيل: للسماع علتان حاملتان عليه داعيتان إليه: إحداهما أخروية وهي النعيم للمطيع والعذاب للعاصي، والأخرى دنيوية وهي مخالفة الأعداء، فإنهم ما يودون أن ينزل عليكم شيء لكم فيه خير فضلًا عن أن تمتثلوه، ومخالفة الأعداء من الأغراض العظيمة للمتمكنين في الأخلاق الفاضلة من ذوي الأدوات الكاملة، ولم يعطف {ما يود} لأنه مع ذلك علة للعلة، فكأنه قيل: لهم عذاب أليم لأنهم يودون لكم خيرًا؛ فسماعكم من جملة عذابهم، لأنه واقع على خلاف ودادتهم مع ما يدخر لهم في الآخرة بكفرهم وتمنيهم كفركم، ولا يخفى ما فيها وفي التي بعدها من التحريض على الكتاب الذي لا ريب فيه.ولما بين سبحانه ما يودون أتبعه التعريف بأن له التصرف التام، رضي من رضي وسخط من سخط فقال معلقًا الأمر بالاسم الأعظم الجامع: {والله} أي ما يودون والحال أن ذا الأسماء الحسنى {يختص} ولما كان المنزل أتم الرحمة عبر عنه بقوله: {برحمته} التي وسعت كل شيء من الهداية والعلم وغير ذلك {من يشاء} أي يجعله مختصًا أي منفردًا بها من بين الناس، ولو كان عند غيره بمحل الاحتقار كما كان العرب عند بني إسرائيل لما كانوا يرون من جهلهم وضلالهم وجفائهم واختلال أحوالهم؛ والاختصاص عناية تعين المختص لمرتبة ينفرد بها دون غيره، والرحمة نحلة ما يوافي المرحوم في ظاهره وباطنه، أدناه كشف الضر وكف الأذى، وأعلاه الاختصاص برفع الحجاب- قاله الحرالي.ولما كان ذلك ربما أوهم أنه إذا فعله لم يبق من رحمته ما يسع غير المختص نفاه بقوله مصدرًا له بالاسم الأعظم أيضًا عاطفًا على ما أفهمه الاختصاص من نحو أن يقال تعريضًا باليهود: فالله بمن يزوي عنه الرحمة عليم {والله} أي الملك الأعلى الذي له جميع العظمة والرحمة فلا كفؤ له {ذو الفضل العظيم} أي الذي لا يحصر بحد ولا يدخل تحت عد. اهـ..من أقوال المفسرين: .قال أبو حيان: ذكر المفسرون أن المسلمين قالوا لحلفائهم من اليهود: آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم، فقالوا: وددنا لو كان خيرًا مما نحن عليه فنتبعه، فأكذبهم الله بقوله: {ما يود الذين كفروا}، فعلى هذا يكون المراد بأهل الكتاب: الذين بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم.والظاهر، العموم في أهل الكتاب: وهم اليهود والنصارى، وفي المشركين: وهم مشركو العرب وغيرهم، ونفى بما، ونها لنفي الحال، فهم ملتبسون بالبغض والكراهة أن ينزل عليكم. اهـ..قال الفخر: اعلم أنه تعالى لما بين حال اليهود والكفار في العداوة والمعاندة حذر المؤمنين منهم فقال: {مَّا يَوَدُّ الذين كَفَرُواْ} فنفى عن قلوبهم الود والمحبة لكل ما يظهر به فضل المؤمنين وهاهنا مسألتان:المسألة الأولى:من الأولى للبيان لأن الذين كفروا جنس تحته نوعان: أهل الكتاب والمشركون، والدليل عليه قوله تعالى: {لَمْ يَكُنِ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب والمشركين} [البينة: 1] والثانية: مزيدة لاستغراق الخير، والثالثة: لابتداء الغاية.المسألة الثانية:الخير الوحي وكذلك الرحمة، يدل عليه قوله تعالى: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبّكَ} [الزخرف: 32] المعنى أنهم يرون أنفسهم أحق بأن يوحي إليهم فيحسدونكم وما يحبون أن ينزل عليكم شيء من الوحي.ثم بين سبحانه أن ذلك الحسد لا يؤثر في زوال ذلك، فإنه سبحانه يختص برحمته وإحسانه من يشاء. اهـ..قال القرطبي: قوله تعالى: {مَّا يَوَدُّ} أي ما يتمّنى، وقد تقدّم.{الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب وَلاَ المشركين} معطوف على {أهل}.ويجوز: ولا المشركون، تعطفه على الذين؛ قاله النحاس.{أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِّنْ خَيْرٍ} {من} زائدة، {خير} اسم ما لم يُسمّ فاعله.و{أن} في موضع نصب؛ أي بأن ينزل.{والله يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ} قال عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه: {يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ} أي بنبوّته، خص بها محمدًا صلى الله عليه وسلم.وقال قوم: الرحمة القرآن وقيل: الرحمة في هذه الآية عامّة لجميع أنواعها التي قد منحها الله عباده قديمًا وحديثًا؛ يقال: رَحِم يَرْحَم إذا رَقّ.وَالرُّحْمُ والمَرْحَمَة والرَّحمة بمعنًى؛ قاله ابن فارس.ورحمة الله لعباده: إنعامه عليهم وعفوه لهم.{والله ذُو الفضل العظيم} {ذو} بمعنى صاحب. اهـ..قال أبو السعود: {مَّا يَوَدُّ الذين كَفَرُواْ} الوُدُّ حبُّ الشيءِ مع تمنِّيه، ولذلك يستعمل في كلَ منهما، ونفيُه كنايةٌ عن الكراهة، ووضعُ الموصول موضعَ الضمير للإشعار بعلّية ما في حيز الصلةِ لعدم وُدِّهم، ولعل تعلقَه بما قبله من حيث إن القولَ المنهيَّ عنه كثيرًا ما كان يقع عند تنزيل الوحْي المعبَّرِ عنه في هذه الآية بالخير، فكأنه أُشير إلى أن سببَ تحريفِهم له إلى ما حُكي عنهم لوقوعه في أثناء حصولِ ما يكرهونه من تنزيلِ الخير وقيل: كان فريق من اليهود يُظهرون للمؤمنين محبةً ويزعُمون أنهم يَودُّون لهم الخير فنزلت تكذيبًا لهم في ذلك، ومن في قوله تعالى: {مِنْ أَهْلِ الكتاب وَلاَ المشركين} للتبيين كما في قوله عز وعلا: {لَمْ يَكُنِ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب والمشركين} ولا مزيدةٌ لما ستعرفه {أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم} في حيز النصب على أنه مفعولُ يود، وبناءُ الفعل للمفعول للثقة بتعيُّن الفاعل، والتصريحُ الآتي في قوله تعالى: {مّنْ خَيْرٍ} هو القائمُ مقامَ فاعلِه ومن مزيدة للاستغراق، والنفيُ وإن لم يباشرْه ظاهرًا لكنه منسحبٌ عليه معنًى، والخيرُ الوحيُ، وحملُه على ما يعمّه وغيره من العلم والنُّصرة كما قيل: يأباه وصفُه فيما سيأتي بالاختصاص، وتقديم هو عليكم والأصل: أن ينزل من خير عليكم الظرف عليه مع أن حقه التأخرُ عنه لإظهار كمال العنايةِ به، لأنه المدارُ لعدم ودِّهم، ومن في قوله تعالى: {مّن رَّبّكُمْ} ابتدائية، والتعرُّضُ لعنوان الربوبية للإشعار بعليته لتنزيل الخيرِ والإضافة إلى ضمير المخاطبين لتشريفهم، وليست كراهتُهم لتنزيله على المخاطبين من حيث تعبُّدُهم بما فيه وتعريضُهم بذلك لسعادة الدارين كيف لا وهم من تلك الحيثية من جملة مَنْ نزَلَ عليهم الخيرُ بل من حيث وقوعُ ذلك التنزيلِ على النبي صلى الله عليه وسلم، وصيغةُ الجمعِ للإيذان بأن مدارَ كراهتهم ليس معنى خاصًا بالنبي صلى الله عليه وسلم بل وصفٌ مشترك بين الكل وهو الخلوُّ عن الدراسة عند اليهود وعن الرياسة عند المشركين، والمعنى أنهم يرَوْن أنفسَهم أحقَّ بأن يوحى إليهم ويكرهونكم فيحسُدونكم أن ينْزِل عليكم شيء من الوحي، أما اليهودُ فبناءً على أنهم أهلُ الكتاب وأبناءُ الأنبياءِ الناشئون في مهابط الوحي وأنتم أُميِّوّن، وأما المشركون فإدلالًا بما كان لهم من الجاه والمال زعمًا منهم أن رياسةَ الرسالةِ كسائر الرياساتِ الدنيويةِ منوطةٌ بالأسباب الظاهرة ولذلك قالوا: {لَوْلاَ نُزّلَ هذا القرءان على رَجُلٍ مّنَ القريتين عَظِيمٍ} ولما كانت اليهودُ بهذا الداء أشهرَ لاسيما في أثناء ذكرِ ابتلائِهم به لم يلزَمْ من نفي ودادتِهم لما ذكِرَ نفيُ ودادةِ المشركين له، فزيدت كلمةُ لا لتأكيد النفي {والله يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ} جملة ابتدائية سيقت لتقرير ما سبق من تنزيل الخيرِ والتنبيه على حكمتِه وإرغامِ الكارهين له، والمرادُ برحمته الوحيُ كما في قوله سبحانه: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبّكَ} عبّر عنه باعتبار نزولِه على المؤمنين بالخير وباعتبار إضافتِه إليه تعالى بالرحمة قال علي رضي الله عنه: بنبوته، خَصَّ بها محمدًا صلى الله عليه وسلم، فالفعلُ متعدٍ وصيغة الافتعال للإنباء عن الاصطفاء، وإيثارُه على التنزيل المناسبِ للسياق الموافقِ لقوله تعالى: {أَن يُنَزّلُ الله مِن فَضْلِهِ على مَن يَشَاء} لزيادة تشريفِه صلى الله عليه وسلم وإقناطِهم مما علّقوا به أطماعَهم الفارغةَ، والباءُ داخلةٌ على المقصور أي يؤتي رحمته {مَن يَشَاء} من عباده ويجعلها مقصورةً عليه لاستحقاقه الذاتي الفائضِ عليه بحسب إرادتِه عز وعلا تفضّلًا لا تتعداه إلى غيره، وقيل: الفعلُ لازمٌ ومَنْ فاعله والضميرُ العائد إلى مَنْ محذوفٌ على التقديرين، وقوله تعالى: {والله ذُو الفضل العظيم} تذييلٌ لما سبق مقررٌ لمضمونه وفيه إيذان بأن إيتاءَ النبوةِ من فضله العظيم كقوله تعالى: {إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا} وأن حِرمان من حُرم ذلك ليس لضيق ساحةِ فضلِه بل لمشيئته الجاريةِ على سَننِ الحِكْمةِ البالغةِ، وتصديرُ الجملتين بالاسم الجليل للإيذان بفخامة مضمونَيْهما، وكونِ كلَ منهما مستقلةً بشأنها، فإن الإضمارَ في الثانية مُنبئ عن توقُّفِها على الأولى. اهـ..قال الألوسي: {مَّا يَوَدُّ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب وَلاَ المشركين} الوَدّ محبة الشيء وتمني كونه، ويذكر ويراد كل واحد منهما قصدًا والآخر تبعًا، والفارق كون مفعوله جملة إذا استعمل في التمني ومفردًا إذا استعمل في المحبة فتقول على الأول: وددت لو تفعل كذا، وعلى الثاني: وددت الرجل، ونفيه كناية عن الكراهة وأتي بما للإشارة إلى أن أولئك متلبسون بها و{مِنْ} للتبيين، وقيل: للتبعيض وفي إيقاع الكفر صلة للموصول وبيانه بما بين وإقامة المظهر موضع المضمر إشعار بأن كتابهم يدعوهم إلى متابعة الحق إلا أن كفرهم يمنعهم وإن الكفر شر كله لأنه الذي يورث الحسد ويحمل صاحبه على أن يبغض الخير ولا يحبه كما أن الإيمان خير كله لأنه يحمل صاحبه على تفويض الأمور كلها إلى الله تعالى، ولا صلة لتأكيد النفي وزيدت له هنا دون قوله: {لَمْ يَكُنِ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب والمشركين} [البينة: 1] لما أن مبنى النفي الحسد، واليهود بهذا الداء أشهر لاسيما وقد تقدم ما يفيد ابتلاءهم به فلم يلزم من نفي ودادتهم هذه نفي ودادة المشركين لها ولم يكن ذلك في {لَمْ يَكُنِ} وسبب نزول الآية أن المسلمين قالوا لحلفائهم من اليهود: آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم فقالوا: وددنا لو كان خيرًا مما نحن عليه فنتبعه فأكذبهم الله تعالى بذلك، وقيل: نزلت تكذيبًا لجمع من اليهود يظهرون مودة المؤمنين ويزعمون أنهم يودون لهم الخير وفصلت عما قبل، وإن اشتركا في بيان قبائح اليهود مع الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين لاختلاف الغرضين فإن الأول لتأديب المؤمنين وهذا لتكذيب أولئك الكافرين، ولأجل هذا الاختلاف فصل السابق عن سابقه، ومما ذكرنا يعلم وجه تعلق الآية بما قبلها، والقول بأن ذلك من حيث إن القول المنهي عنه كثيرًا ما كان يقع عند تنزيل الوحي المعبر عنه بالخير فيها فكأنه أشير إلى أن سبب تحريفهم له إلى ما حكي عنهم لوضوعه في أثناء حصول ما يكرهونه من تنزيل الخير مساق على سبيل الترجي وأظنه إلى التمني أقرب، وقرئ {وَلاَ المشركون} بالرفع عطفًا على الذين كفروا.{أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم} في موضع النصب على أنه مفعول {يَوَدُّ} وبناء الفعل للمفعول للثقة بتعيين الفاعل وللتصريح به فيما بعد، وذكر التنزيل دون الإنزال رعاية للمناسبة بما هو الواقع من تنزيل الخيرات على التعاقب وتجددها لاسيما إذا أريد {مّنْ خَيْرٍ} في قوله تعالى: {مّنْ خَيْرٍ} الوحي وهو قائم مقام الفاعل، ومن صلة وزيادة خير، والنفي الأول منسحب عليها، ولذا ساغت زيادتها عند الجمهور ولا حاجة إلى ما قيل: إن التقدير يود أن لا ينزل خير، وذهب قوم إلى أنه للتبعيض وعليه يكون عليكم قائمًا ذلك المقام، والمراد من الخير إما الوحي أو القرآن أو النصرة أو ما اختص به رسول الله صلى الله عليه وسلم من المزايا أو عام في أنواع الخير كلها لأن المذكورين لا يودون تنزيل جميع ذلك على المؤمنين عداوة وحسدًا وخوفًا من فوات الدراسة وزوال الرياسة، وأظهر الأقوال كما في (البحر) الأخير ولا يأباه ما سيأتي لما سيأتي.{مّن رَّبّكُمْ} في موضع الصفة للخير، ومن ابتدائية والتعرض لعنوان الربوبية للاشعار بعلية التنزيل والإضافة إلى ضمير المخاطبين لتشريفهم {والله يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاء} جملة ابتدائية سيقت لتقرير ما سبق من تنزيل الخير والتنبيه على حكمته وإرغام الكارهين له، والمراد من الرحمة ذلك الخير إلا أنه عبر عنه بها اعتناء به وتعظيما لشأنه؛ ومعنى اختصاص ذلك على القول الأول ظاهر ولذا اختاره من اختاره، وعلى الأخير انفراد رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بمجموعه وعدم شركة أولئك الكارهين فيه وعروّهم عن ترتب آثاره، وقيل: المراد من الآية دفع الاعتراض الذي يشير إليه الحسد بأن من له أن يخص لا يعترض عليه إذا عم، وفي إقامة لفظ الله مقام ضمير ربكم تنبيه على أن تخصيص بعض الناس بالخير دون بعض يلائم الألوهية كما أن إنزال الخير على العموم يناسب الربوبية، والباء داخلة على المقصور أي يؤتي رحمته، ومن مفعول، وقيل: الفعل لازم، ومن فاعل وعلى التقديرين العائد محذوف {والله ذُو الفضل العظيم}.تذييل لما سبق وفيه تذكير للكارهين الحاسدين بما ينبغي أن يكون مانعًا لهم لأن المعنى على أنه سبحانه المتفضل بأنواع التفضلات على سائر عباده فلا ينبغي لأحد أن يحسد أحدًا، ويود عدم إصابة خير له، والكل غريق في بحار فضله الواسع الغزير كذا قيل: وإذا جعل الفضل عامًا؛ وقيل: بإدخال النبوة فيه دخولًا أوليًا لأن الكلام فيها على أحد الأقوال: كان هناك إشعار بأن النبوة من الفضل لا كما يقوله الحكماء من أنها بتصفية الباطن، وأن حرمان بعض عباده ليس لضيق فضله بل لمشيئته وما عرف فيه من حكمته، وتصدير هذه الجملة بالاسم الكريم لمناسبة العظيم. اهـ.
|